الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام الإمام الثالث للشيعة الأمامية خامس أهل البيت عليهم السلام. ولد في المدينة المنورة في الثالث من شعبان من السنة الرابعة من الهجرة النبوية الشريفة, سبط الرسول الأعظم (ص) . أبوه الإمام علي بن ابي طالب (ع) و وامه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالين (ع) .
تربى في بيت النبوة مع اخيه الحسن عليهما السلام وفال فيهما رسول الله (ص) :الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. والحسن والحسين إمامان قاما او قعدا.تقلد منصب الإمامة بعد شهادة اخيه الحسن المجتبى في السنة الخمسين من الهجرة, وتولى مقاليد الإمامة منذ ذلك الوقت الى حين شهادة في سنة 61 هـ في زمان الاستبداد والظلم الأموي علي يد يزيد بن معاوية بن ابي سفيان.فقد شهدت السنوات الأولى من الحكم الأموي القتل والتشريد والتنكيل بشيعة أهل البيت عليهم السلام.فقتل حجر بن عدي, ورشيد الهجري , وميثم التمار, وهانئ بن عروة وآخرون بدا بهم معاوية ولم ينته منهم يزيد في واقعة كربلاء وما بعدها.وفي رجب من سنة 60هـ انتهى دور معاوية في هذا الاستئصال وجاء جور يزيد الذي خلف أباه فيه.وبدأ عهد يزيد بن معاوية بطلب البيعة من الحسين عليه السلام , ومن غيره من رجالات المدينة التي استعصت على القبول بخلافة يزيد فكان نصيبهم منه واقعة الحَرّة المأساوية.
وادعى يزيد كل شئ ونشر العروبية منهجا وسلوكا , لكنه نسي الأشهر الحرم وحرمتها عند العرب فارتكب في محرم الحرام بحق الحسين وأهل بيته ما ارتكب .
واصبح الدين منه يشتكي الماً وما الى احد غير الحسين شكا
فما راى السبط للدين الحنيف شفاً الا اذا دمه في كربلا سفكا
فخرج الحسين عليه السلام بالاهل والأصحاب والأولاد , من المدينة خائفا على الدين والمتدينين كخروج موسى عليه السلام خائفا يترقب.
وأقام في مهبط الوحي مكة المكرمة. وجاءه الناس والتفوا حوله وتتابعت عليه الكتب من الكوفة يطلبون منه المسير اليهم لعل في ذلك تعويضاً لما حلّ بهم من حيف وظلم ولسان حالهم يقول:
معاوية ! فاسجح فلسنا بالجبال ولا الحديد اكلتم فيئنا وتركتمونا فهل من قائم او من حصيد , فهبنا امة ذهبت ضياعا ً يزيد اميرها وابو يزيد .
فارسل اليهم ابن عمه وثقته في اهل بيته , مسلم بن عقيل بن أبي طالب لينظر حالهم ويتولى شوونهم حتى يسير هو وانصاره بعد ذلك اليهم .
وأصبحت الكوفة طوعاً لمسلم , فشعرا لبلاط الأموي بالخطر على العرش , وتمت الإجراءات على قدم وساق لتدارك هذا الأمر الخطير المحدق بهم , وضم الى واليهم عبيد الله بن زياد ولاية الكوفة بالإضافة الى البصرة لان في ابن زياد امل السلطان للقضاء على التمرد الذي لم يكن في الحسبان.
واستخدم ابن زياد كل وسائل الترغيب والترهيب مع الناس كل حسب حالته وميله الى الدنيا ونسبة الطمع , وتنوع الجشع عندهم . وانتهت هذه السياسة الى استتباب الامر له ومن ثمّ تعبئة الناس لمواجهة الثوار الزاحفون نحو العراق وهم على مسافة من الكوفة العاصمة.
. فنزل الحسين عليه السلام ارض كربلاءو وخطب أصحابه فقال : " أما بعد فإنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، ألا وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ؟ ! فليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما "
فنزل كربلا يوم الخميس ثاني محرم الحرام من سنة إحدى وستين وضرب أخبيته هناك ، فأتاه عمر بن سعد بالسيل الجارف من الرجال والخيل حتى نادى منادي ابن زياد في الكوفة ألا برئت الذمة ممن وجد في الكوفة لم يخرج لحرب الحسين ( عليه السلام ) ، فرئي رجل غريب فأحضر عند ابن زياد فسأله فقال : إني رجل من أهل الشام جئت لدين لي في ذمة رجل من أهل العراق . فقال ابن زياد : اقتلوه ففي قتله تأديب لمن لم يخرج بعد فقتل . وكان عمر بن سعد أراد الموادعة فسأل الحسين ( عليه السلام ) عما أتى به فأخبره ، وخيره بين الرجوع إلى مكة واللحوق ببعض الشعوب النائية والجبال القاصية ، فكتب بذلك إلى ابن زياد فأجابه بالتهديد والإيعاد وباعتزال العمل وتوليته لشمر بن ذي الجوشن إن لم ينازل الحسين ( عليه السلام ) أو يستنزله على حكمه ، فوصل الكتاب إلى عمر بن سعد في اليوم السادس من المحرم ، وقد تكامل عنده من الرجال عشرون ألفا ، فقطع المراسلات بينه وبين الحسين وضيق عليه ومنع عليه ورود الماء وطلب منه إحدى الحالتين النزول أو المنازلة .
ثم أتى أمر من عبيد الله إلى عمر بن سعد يستحثه على المنازلة ، فركبوا خيولهم وأحاطوا بالحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه فأرسل الحسين ( عليه السلام ) أخاه العباس معه جملة من أصحابه وقال : سلهم التأجيل إلى غد إن استطعت ، وكان ذلك اليوم تاسع محرم فأجلوه بعد مؤامرة بينهم وملاومة ، فلما دجا الليل بات أولئك الأنجاب بين قائم وقاعد وراكع وساجد ، وإن الحرس لتسمع منهم في التلاوة دويا كدوي النحل ، ثم جاءهم سيد هم الحسين ( عليه السلام ) فخطبهم وقال : " أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السراء والضراء ، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين " .
أما بعد : " فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا ، ألا وإني لأظن أن لنا يوما من هؤلاء ، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ودعوني وهؤلاء القوم فإنهم ليس يريدون غيري " .
ولكن الجميع كان على موعد مع الشهادة , فكلمات الحسين عليه السلام في المدينة ومكة بل في كل الطريق وسيرته بسنة جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك كان السبب في بذل النفوس والارواح, فقد شروا لقاء الله استعدوا للفداء عن دينه .فهم مع سيدهم فيما عزم عليه وفيما صمم على نيله حتى الشهادة. فالمصير واحد والنصر رائد.
" الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله ، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة ، على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، فكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضاء الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين ولن تشذ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لحمته وهي مجموعة في حظيرة القدس ، تقربهم عينه وينجز بهم وعده ، فمن كان باذلا فينا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل فإني راحل مصبحا إن شاء الله ".
والنواويس( كما قال المحدث النوري في كتاب نفس الرحمن) , النواويس مقابرالنصارى, وسمعنا انها المكان الذي فيه مزار الحر بن يزيد الرياحي من شهداء الطف ما بين الغرب وشمال البلد .
وكان التصميم على ما عاهدوا الله عليه. وبيان الثورة قد اٌعلن :
ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، من أن نؤثر طاعة اللئام ، على مصارع الكرام ، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ! ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي :
فإن نهزم فهزامون قدما * وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبنا حبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا
((إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم))* (، اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير) .
صلى الحسين ( عليه السلام ) الظهر أول وقتها صلاة الخوف ووقعت مقاتلات قبلها وفي أثنائها ممن وقف لمحاماته واقتتلوا بعد الظهر ، فلم يبق مع الحسين أحد من أصحابه ، فتقدم أهل بيته حتى لم يبق منهم أحد ، فتقدم إلى الحرب بنفسه فوقف بينهم وضرب بيده على كريمته الشريفة وكانت مخضوبة كأنها سواد السبج ، قد نصل منها الخضاب ، وقال : " اشتد غضب الله على اليهود إذ قالوا عزير ابن الله ، واشتد عضبه على النصارى إذ قالوا المسيح ابن الله ، واشتد غضبه على قوم أرادوا ليقتلوا ابن بنت نبيهم " ( 36 ) .
ثم نادى : " هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله ، هل من موحد يخاف الله فينا ، هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ، هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا " ؟ ! فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فمضى إلى مخيمه ليسكت النساء وأخذ طفلا له من يد أخته زينب فرماه حرملة أو عقبة بسهم فوقع في نحره كما سيأتي ذكره في ترجمته ، فتلقى الدم بكفيه ورمى به نحو السماء ، وقال : " هون علي ما نزل بي أنه بعين الله " . ثم جرد سيفه فيهم فجعل ينقف الهام ويوطئ الأجسام ، ورماه رجل من بني دارم بسهم فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزعه وبسط يديه ( 37 ) تحت حنكه فلما امتلئتا دما رمى به نحو السماء وقال : " اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك.
ثم عاد إلى مخيمه فطلب ثوبا يلبسه تحت ثيابه فأتي بتبان ، فقال : " لا ، هذا لباس من ضربت عليه الذلة " ، فجيئ له ببرد يماني يلمع فيه البصر ففزره ولبسه تحت ثيابه ، ثم شد عليهم شدة ليث مغضب وجراحاته تشخب دما فتطايروا من بين يديه ، وحال من تيامن أو تياسر بينه وبين حرمه .
فصاح : " ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون " فناداه شمر : ما تقول يا بن فاطمة ؟ قال : " أقول : إني أقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهالكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا " ، فقال له شمر : لك ذلك يا بن فاطمة ، فجعل يحمل ويحملون وهو مع ذلك يطلب شربة ماء ، فلم يجد حتى أثخنته جراحاته ، فوقف ليستريح فرمي بحجر فوقع في جبهته فسالت الدماء على وجهه فرفع ثوبه ليمسح الدم عن وجهه ، فرمي بسهم فوقع في قلبه ، فأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدم كالميزاب ، فوقف بمكانه لا يستطيع أن يحمل ، فصاح شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله ) ما تنتظرون بالرجل ؟ فطعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته ، فوقع من ظهر فرسه إلى الأرض على خده الأيمن وهو يقول : " بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله " ، ثم قام فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى ، وضربه آخر على عاتقه فخر على وجهه وجعل ينوء برقبته ويكبو ، فطعنه سنان في ترقوته ، ثم انتزع السنان فطعنه في بواني صدره ، ورماه سنان أيضا بسهم فوقع في نحره ، فجلس قاعدا ونزع السهم وقرن كفيه جميعا حتى امتلئتا من دمائه فخضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول : " هكذا ألقى الله مخضبا بدمي مغصوبا علي حقي " .
وجاء مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين وقبض على كريمته وضربه بسيفه على رأسه ، وبدر خولي بن يزيد الأصبحي ليحز رأسه فأرعد ، فجاء سنان فضربه على ثغره الشريف ، وجاء شمر فاحتز رأسه ، ثم سلبوا جسده الكريم ، وحزت رؤوس أصحابه ، ووطئت أجسادهم بعوادي الخيول ، وانتهبت الخيام ، وأسر من فيها ، وذهبوا بالرؤوس والسبايا إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام ، ومنها إلى المدينة وطن جدهم عليه وعليهم السلام .
فاجعة إن أردت أكتبها * مجملة ذكرة لمدكر
جرت دموعي فحال حائلها * ما بين لحظ الجفون والزبر
وقال قلبي بقيا علي فلا * والله ما قد طبعت من حجر
بكت لها الأرض والسماء وما * بينهما في مدامع حمر
واهتز عرش الجليل واضطربت * فرائص الكاتبين للقدر(إبصار ر العين للسماوي- تحقيق الطبسي ).
الهامش
1ـ الارشاد للشيخ المفيد ص300و301
2ـ نفس المهموم للقمي ص147و184
3ـ تاريخ 5 آلاف عام لايران ص898و899
4ـ تذكرة الخواص ص 143 الطبعة الحجرية
5ـ الكامل لابن أثير
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فأنها مِن تَقْوَى الْقُلُوب
وادعى يزيد كل شئ ونشر العروبية منهجا وسلوكا , لكنه نسي الأشهر الحرم وحرمتها عند العرب فارتكب في محرم الحرام بحق الحسين وأهل بيته ما ارتكب .
واصبح الدين منه يشتكي الماً وما الى احد غير الحسين شكا
فما راى السبط للدين الحنيف شفاً الا اذا دمه في كربلا سفكا
فخرج الحسين عليه السلام بالاهل والأصحاب والأولاد , من المدينة خائفا على الدين والمتدينين كخروج موسى عليه السلام خائفا يترقب.
وأقام في مهبط الوحي مكة المكرمة. وجاءه الناس والتفوا حوله وتتابعت عليه الكتب من الكوفة يطلبون منه المسير اليهم لعل في ذلك تعويضاً لما حلّ بهم من حيف وظلم ولسان حالهم يقول:
معاوية ! فاسجح فلسنا بالجبال ولا الحديد اكلتم فيئنا وتركتمونا فهل من قائم او من حصيد , فهبنا امة ذهبت ضياعا ً يزيد اميرها وابو يزيد .
فارسل اليهم ابن عمه وثقته في اهل بيته , مسلم بن عقيل بن أبي طالب لينظر حالهم ويتولى شوونهم حتى يسير هو وانصاره بعد ذلك اليهم .
وأصبحت الكوفة طوعاً لمسلم , فشعرا لبلاط الأموي بالخطر على العرش , وتمت الإجراءات على قدم وساق لتدارك هذا الأمر الخطير المحدق بهم , وضم الى واليهم عبيد الله بن زياد ولاية الكوفة بالإضافة الى البصرة لان في ابن زياد امل السلطان للقضاء على التمرد الذي لم يكن في الحسبان.
واستخدم ابن زياد كل وسائل الترغيب والترهيب مع الناس كل حسب حالته وميله الى الدنيا ونسبة الطمع , وتنوع الجشع عندهم . وانتهت هذه السياسة الى استتباب الامر له ومن ثمّ تعبئة الناس لمواجهة الثوار الزاحفون نحو العراق وهم على مسافة من الكوفة العاصمة.
. فنزل الحسين عليه السلام ارض كربلاءو وخطب أصحابه فقال : " أما بعد فإنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، ألا وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ؟ ! فليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما "
فنزل كربلا يوم الخميس ثاني محرم الحرام من سنة إحدى وستين وضرب أخبيته هناك ، فأتاه عمر بن سعد بالسيل الجارف من الرجال والخيل حتى نادى منادي ابن زياد في الكوفة ألا برئت الذمة ممن وجد في الكوفة لم يخرج لحرب الحسين ( عليه السلام ) ، فرئي رجل غريب فأحضر عند ابن زياد فسأله فقال : إني رجل من أهل الشام جئت لدين لي في ذمة رجل من أهل العراق . فقال ابن زياد : اقتلوه ففي قتله تأديب لمن لم يخرج بعد فقتل . وكان عمر بن سعد أراد الموادعة فسأل الحسين ( عليه السلام ) عما أتى به فأخبره ، وخيره بين الرجوع إلى مكة واللحوق ببعض الشعوب النائية والجبال القاصية ، فكتب بذلك إلى ابن زياد فأجابه بالتهديد والإيعاد وباعتزال العمل وتوليته لشمر بن ذي الجوشن إن لم ينازل الحسين ( عليه السلام ) أو يستنزله على حكمه ، فوصل الكتاب إلى عمر بن سعد في اليوم السادس من المحرم ، وقد تكامل عنده من الرجال عشرون ألفا ، فقطع المراسلات بينه وبين الحسين وضيق عليه ومنع عليه ورود الماء وطلب منه إحدى الحالتين النزول أو المنازلة .
ثم أتى أمر من عبيد الله إلى عمر بن سعد يستحثه على المنازلة ، فركبوا خيولهم وأحاطوا بالحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه فأرسل الحسين ( عليه السلام ) أخاه العباس معه جملة من أصحابه وقال : سلهم التأجيل إلى غد إن استطعت ، وكان ذلك اليوم تاسع محرم فأجلوه بعد مؤامرة بينهم وملاومة ، فلما دجا الليل بات أولئك الأنجاب بين قائم وقاعد وراكع وساجد ، وإن الحرس لتسمع منهم في التلاوة دويا كدوي النحل ، ثم جاءهم سيد هم الحسين ( عليه السلام ) فخطبهم وقال : " أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السراء والضراء ، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين " .
أما بعد : " فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا ، ألا وإني لأظن أن لنا يوما من هؤلاء ، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ودعوني وهؤلاء القوم فإنهم ليس يريدون غيري " .
ولكن الجميع كان على موعد مع الشهادة , فكلمات الحسين عليه السلام في المدينة ومكة بل في كل الطريق وسيرته بسنة جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك كان السبب في بذل النفوس والارواح, فقد شروا لقاء الله استعدوا للفداء عن دينه .فهم مع سيدهم فيما عزم عليه وفيما صمم على نيله حتى الشهادة. فالمصير واحد والنصر رائد.
" الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله ، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة ، على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، فكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضاء الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين ولن تشذ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لحمته وهي مجموعة في حظيرة القدس ، تقربهم عينه وينجز بهم وعده ، فمن كان باذلا فينا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل فإني راحل مصبحا إن شاء الله ".
والنواويس( كما قال المحدث النوري في كتاب نفس الرحمن) , النواويس مقابرالنصارى, وسمعنا انها المكان الذي فيه مزار الحر بن يزيد الرياحي من شهداء الطف ما بين الغرب وشمال البلد .
وكان التصميم على ما عاهدوا الله عليه. وبيان الثورة قد اٌعلن :
ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، من أن نؤثر طاعة اللئام ، على مصارع الكرام ، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ! ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي :
فإن نهزم فهزامون قدما * وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبنا حبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا
((إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم))* (، اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير) .
صلى الحسين ( عليه السلام ) الظهر أول وقتها صلاة الخوف ووقعت مقاتلات قبلها وفي أثنائها ممن وقف لمحاماته واقتتلوا بعد الظهر ، فلم يبق مع الحسين أحد من أصحابه ، فتقدم أهل بيته حتى لم يبق منهم أحد ، فتقدم إلى الحرب بنفسه فوقف بينهم وضرب بيده على كريمته الشريفة وكانت مخضوبة كأنها سواد السبج ، قد نصل منها الخضاب ، وقال : " اشتد غضب الله على اليهود إذ قالوا عزير ابن الله ، واشتد عضبه على النصارى إذ قالوا المسيح ابن الله ، واشتد غضبه على قوم أرادوا ليقتلوا ابن بنت نبيهم " ( 36 ) .
ثم نادى : " هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله ، هل من موحد يخاف الله فينا ، هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ، هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا " ؟ ! فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فمضى إلى مخيمه ليسكت النساء وأخذ طفلا له من يد أخته زينب فرماه حرملة أو عقبة بسهم فوقع في نحره كما سيأتي ذكره في ترجمته ، فتلقى الدم بكفيه ورمى به نحو السماء ، وقال : " هون علي ما نزل بي أنه بعين الله " . ثم جرد سيفه فيهم فجعل ينقف الهام ويوطئ الأجسام ، ورماه رجل من بني دارم بسهم فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزعه وبسط يديه ( 37 ) تحت حنكه فلما امتلئتا دما رمى به نحو السماء وقال : " اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك.
ثم عاد إلى مخيمه فطلب ثوبا يلبسه تحت ثيابه فأتي بتبان ، فقال : " لا ، هذا لباس من ضربت عليه الذلة " ، فجيئ له ببرد يماني يلمع فيه البصر ففزره ولبسه تحت ثيابه ، ثم شد عليهم شدة ليث مغضب وجراحاته تشخب دما فتطايروا من بين يديه ، وحال من تيامن أو تياسر بينه وبين حرمه .
فصاح : " ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون " فناداه شمر : ما تقول يا بن فاطمة ؟ قال : " أقول : إني أقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهالكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا " ، فقال له شمر : لك ذلك يا بن فاطمة ، فجعل يحمل ويحملون وهو مع ذلك يطلب شربة ماء ، فلم يجد حتى أثخنته جراحاته ، فوقف ليستريح فرمي بحجر فوقع في جبهته فسالت الدماء على وجهه فرفع ثوبه ليمسح الدم عن وجهه ، فرمي بسهم فوقع في قلبه ، فأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدم كالميزاب ، فوقف بمكانه لا يستطيع أن يحمل ، فصاح شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله ) ما تنتظرون بالرجل ؟ فطعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته ، فوقع من ظهر فرسه إلى الأرض على خده الأيمن وهو يقول : " بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله " ، ثم قام فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى ، وضربه آخر على عاتقه فخر على وجهه وجعل ينوء برقبته ويكبو ، فطعنه سنان في ترقوته ، ثم انتزع السنان فطعنه في بواني صدره ، ورماه سنان أيضا بسهم فوقع في نحره ، فجلس قاعدا ونزع السهم وقرن كفيه جميعا حتى امتلئتا من دمائه فخضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول : " هكذا ألقى الله مخضبا بدمي مغصوبا علي حقي " .
وجاء مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين وقبض على كريمته وضربه بسيفه على رأسه ، وبدر خولي بن يزيد الأصبحي ليحز رأسه فأرعد ، فجاء سنان فضربه على ثغره الشريف ، وجاء شمر فاحتز رأسه ، ثم سلبوا جسده الكريم ، وحزت رؤوس أصحابه ، ووطئت أجسادهم بعوادي الخيول ، وانتهبت الخيام ، وأسر من فيها ، وذهبوا بالرؤوس والسبايا إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام ، ومنها إلى المدينة وطن جدهم عليه وعليهم السلام .
فاجعة إن أردت أكتبها * مجملة ذكرة لمدكر
جرت دموعي فحال حائلها * ما بين لحظ الجفون والزبر
وقال قلبي بقيا علي فلا * والله ما قد طبعت من حجر
بكت لها الأرض والسماء وما * بينهما في مدامع حمر
واهتز عرش الجليل واضطربت * فرائص الكاتبين للقدر(إبصار ر العين للسماوي- تحقيق الطبسي ).
الهامش
1ـ الارشاد للشيخ المفيد ص300و301
2ـ نفس المهموم للقمي ص147و184
3ـ تاريخ 5 آلاف عام لايران ص898و899
4ـ تذكرة الخواص ص 143 الطبعة الحجرية
5ـ الكامل لابن أثير
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فأنها مِن تَقْوَى الْقُلُوب
السبت سبتمبر 10, 2011 5:20 am من طرف محب العسكريين
» ألبوم الصور من سوق الشيوخ
الإثنين ديسمبر 06, 2010 6:48 am من طرف محب العسكريين
» نبذة مفصلة عن قبيلة بني كعب العربية
الأحد أكتوبر 24, 2010 6:20 am من طرف محب العسكريين
» امارة بني كعب @@
الأحد أكتوبر 24, 2010 3:52 am من طرف محب العسكريين
» العترة الطاهرة ، والدعوة الى الإستمساك بها
الأحد أغسطس 08, 2010 2:41 am من طرف محب العسكريين
» سجدتي السهو،الشك في ركوعات الصلاة @@
الإثنين يونيو 28, 2010 7:51 pm من طرف محب العسكريين
» لمعهد التقني ناصرية يوزع النتائج النهائية للعام ألدارسي 2009- 2010
الأحد يونيو 27, 2010 6:00 am من طرف محب العسكريين
» قبيلة بني خيقان من اكبر واقدم عشائر الناصرية
الأحد يونيو 27, 2010 5:54 am من طرف محب العسكريين
» دعاء معرفة الإمام المهدي ( عليه السلام )
الأحد يونيو 27, 2010 1:55 am من طرف محب العسكريين